الشاعر القصيبي
صفحة 1 من اصل 1
الشاعر القصيبي
الشاعر القصيبي
لقد تخطفتني المفاجأة المؤلمة للشارع العربي على حين غرّة، فقد كنت أسمع كلما أوترت قوسها الأنباء أن الدكتور "غازي" قد تعافى من مرضه وسوف يعود إلى الأضواء أكثر إشراقا، وكانت أمنيتي بلقائه هنا في منبر نادي الأحساء تراودني بين حين وآخر بعد أن يتماثل للشفاء..
علاقتي بالقصيبي علاقة عشق الوطن وترابه ونخيله وكتابه المدرسي ومذكرات الجامعة فهو الذي ملأ أسماع الأجيال بصوته المنغم وشعره المقفى بالسمو والتعالي عن الانشغال بالذات وتقديم مصالح الناس قبل مصالحه فلذا أطلق عليه غازي الإنسان بدلاً من الشاعر كما قال الكثير ومنهم الشاعرالصحيح .
الأعوام السبعون التي عاشها القصيبي قبل أن يوارى الثرى , كانت عطاء وسهراً ومعاناة في مجالات التنمية والإدارة والإبداع الأدبي , ويعتبر القصيبي ظاهرة في المشهد الأدبي السعودي , لم يكن فقط صاحب ديوان الحمى أحد دواوينه الباكرة الذي انتشر قبل عقود واحدث رد فعل صادم , اشبه بما تفعله الحمى في الجسد , بما انطوى عليه من تجديد رؤية مغايرة وتشوف لما ينبغي أن تكون عليه القصيدة , ولم يكن فقط شاعراً وروائياً ولا قاصاً أو مؤلفاً من طراز رفيع ولا أيضاً وزيراً وسفيراً , بل كان كل ذلك في المستوى نفسه من الإبداع والجرأة والتمرد والصخب وتعدد الأحلام .
فهل هو أيضاً حلم وصوت لكل أديب في الوطن ... لا بل هو صوت وحلم لكل مواطن حر ونزيه ومتكلم لبق ودبلوماسي ...
إنه الأديب الواعي فارس المهمات الصعبة وقدوة الشباب وفخر الوطن والمواطن ...
يقول الشاعر القصيبي في كتابه سيرة شعرية :
إن كل شاعر حقيقي يجب أن يكون كلاسيكياً ورومانسياً وواقعياً في الوقت نفسه .
يجب أن يكون كلاسيكياً فيتحدث بلسان قومه وبالأسلوب الذي يفهمونه ، وبالموسيقى التي تعوَّدت عليها آذانهم ، وبالكلمات التي يحتويها تراثهم ، ويجب أن يكون رومانسياً فيعايش تجاربه معايشة شخصية ذاتية مباشرة بحيث تمتزج التجارب بالذات وتصبح كلاً واحداً لا ينفصل .
ويجب أن يكون واقعياً فيعيش مع البشر ويستنشق هموم البشر ، ويلامس مشاكل البشر ، من نظرتي إلى ( دور الشعر ) ، وإلى طبيعة الشعراء انطلقت عدة مواقف عملية محددة ، نظراً لاقتناعي بأن الشعر غاية في حدِّ ذاته ، وليس وسيلة نحو غاية أكبر رفضتُ أن أجند شعري لخدمة أي قضية من القضايا . (سيرة شعرية ، ص 150-151 .).
فقصيدته الشهيرة «رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة» التي عاتب فيها المسؤولين بسبب الفساد وسعي «الوشاة» إلى النيل منه ، هذه القصيدة صيرته سفيراً في البحرين، بعد أن أعفي من منصبه الوزاري.
قــل لـلـوشـاة أتـيــت أرفـــع رايـتــي البيضاء فاسعوا في أديمي واضربوا
هذي المعارك لست أحسـن خوضهـا مـــن ذا يـحــارب والـغـريـم الثـعـلـب
ومــن المنـاضـل والـسـلاح دسيـسـة ومـــن المـكـافـح والـعــدو الـعـقـرب
تـأبـى الرجـولـة أن تـدنــس سيـفـهـا قــد يغـلـب الـمـقـدام سـاعــة يـغـلـب
ويخاطب زوجته في قصيدة سابقة:
قولي: لم يكنْ بَطَلاً، لكنه لم يقبّل جبهةَ العارِ
(20) سيرة شعرية ، ص 150-151 .
كنتُ بريئاً … فجُّ الإحساسْ
لا أبصر فرقاً بين الناس … الكل سواء … الكل لآدم من حواءْ
ووقفت على هذا الميناء
فرأيتُ صغيراً وكبيراً … ورأيتُ حقيراً وخطيراً
هذا يجلس .. والناس وقوفْ
هذا يمشي .. فتسيرُ صفوف
هذا يستقبله الحجَّابْ … هذا يترك خلف الأبوابْ
وأصبتُ هناك بحمَّى المجد ] 1975م
إننا نلاحظ التمرد الواضح في قصائد الحمى ، بعد أن أعلن شاعرنا أن الشعر محال في عصرنا هذا إلى التقاعد ، ونعى إلى جميع الناس موت الشاعر ، حيث ابتدأت قصائده بمحاولة التغلب في صراعها مع الحمى ، لكن حمى الزمن الملعون صرعت قصائد القصيبي ، وحولتها إلى جثة هامدة محنطة آلت إلى مومياء .
هذا الشاعر تحول من طفلٍ غِرٍّ إلى كهلٍ خالٍ من الأحاسيس ، وكتلةٍ خاملةٍ ، ومن براءةٍ وطهارةٍ إلى خباثةٍ ودناءةٍ ، وكل صفات الشاعر رحلت عنه، وفارقت قلبه ، وسنبحث عن الدليل ! أو عن سبب إصابته بالحمى ! .
نلحظ أن شاعرنا هو الآن في طور الخشية على الشاعرية من المجد المسمى بالطموح والمعالي ، وهذه المسميات يستعملها أهل ( الجاه والمال ) ، لكنها في عرف الشاعر أو ( الإنسان ) هي وحشة وسراب ووهم ، وهذا الغول – بلغة الشاعر – مخيف يكون صِلاًّ من المجد والطموح والمعالي ليأكل ثلاثة هي الرفق والسماحة والطيبة ،
يا أعز النساء جئت حصاناً مثخناً هده السباق الطويل
كسرت ساقه فجن إباء كيف يحبو هذا الجواد الأصيل
يا أعز النساء أخشى على قلبي
تأكل الرفق والسماحة والطيبة
والطموحُ الذي يغني له الناسُ
والمعالي التي يهيمُ بها الأقوام
طالعنا في قصيدة ( يا أعز النساء ) تاريخ الشعر ، ومكانة الشعر وحالة الرفض لزوال مكانته وعزته ، وهاهو لشدة ما آلمه من حزنه على زمانه التليد ، وتاريخه المجيد ، تسربت إليه هذه الحمى * :
أحس بالرعشة تعتريني
وموجة الإغماء تحتويني
مُرِّي بكفيكِ على جبيني
ويصور شاعرنا الفارس أنه يخوض معركة ضد الطامعين ، وصراع مع الكبار ، في ساحة تكالبت على الشعر أعداؤه ، فهو طامحٌ لأن يكون فارس الميدان ، وبطل الساحة فهل يتحقق له ذلك ؟
حاربتُ بالشعرِ
غنيتُ للطهرِ
وعدتُ يا سلمى
لن أدرك الحلما
هتَفَتِ بي ( أهلاً )
وقلتِ لي ( كلا !
في عالمٍ لا يفهمُ الشعرا
في عالمٍ يغتصبُ الطهرا
ممزَّقاً بعد العناء الشديدْ
ففيمَ أمضي في صراعي العنيدْ ؟
وضوَّأت لي بسمةٌ كالقمرْ
لن ينحني الشعر لزيف البشرْ )
يسكت صوت الشاعر ، ويُعلن عن حالة وفاته ، وتجهيز جثمانه ، لتنتقل روحه إلى عبقر ، وكأنه يتكلم عن لسان الناعي :
( فيما العناء )
[ وحين أغيبْ … وراء المغيبْ
يقولون كان عنيداً … وكان يقول : القصيدا
وكان يحاولُ .. شيئاً جديدا
وراح وخلَّف هذا الوجودا
كما كان قبل غبياً بليدا .. ففيم العناءْ ؟ ]
ولكن سكون صوت الشاعر سببه ماذا ؟ لكن الشامت أعلنها : رحيل ( كان وكان ) مرثية ألقيت في رثائه قبل أن تُهيأ الأكفان ، فكأنها تنتظر أن يحين يوم وفاته ؛ لأنهم رأوا منه هدأته ، وغيبوبته التي طالت ، لكن الشاعر بتجلده أخَّر فرحتهم .
وفجأةً صوت الشاعر يسكت هذا الناعي ( كان وكان ) ، ويقطع عليه بقولٍ : (لا ، ولم ) يدع للشك مجالاً ، أن هناك من الشامتين الذين يتمنون زوال صوته وغيابه :
الشاعر يُسلم بالأمر الواقع ، ويرضى بما هو صائرٌ إليه ، فهذا قدره ، فهو لا يقبل أن يعيش شيخوخة الشعر ، ولكن هل ينجح الشاعر في اختياره البديل ؟ .
هنــاك (30)
[ وذات مساءْ
وركب الضياء يودِّعُ السماءْ
سيأخذني الغيبُ في ساعديهْ
فأمضى وراء المغيبْ
إلى حيث يرتحل الشعراءْ
تقولين : ( ما باله لم يعد ؟ )
تقولين : ( أين أراهْ ؟ )
وتنتظرين على الباب حتى تنام النجومْ
ولكنني
- يا رفيقة عمري .. وواحة قفري ..
وشمس حياتي .. ويا قُبلة الأمنياتِ
التي حررتني من اليأس .. يا وردة الأُمسياتِ
الندية بالعطر والشوق والهمس-
لكنني لن أعود ..
لأنني هناكْ
أتبكينَ ؟
لا والذي جعل الحبَّ يجمع ما بيننا
مِثْلَ قيدٍ شهيٍ عنيفْ
لا والذي صان أيامنا من
غباء الأنامِ وغدر الزمانْ
لا والذي ما عبدنا ، رجونا ، خشينا سواهْ
ارفعي الرأس قولي : ( حبيبي
يواصل ترحاله في صميم الوجودْ
يجوب القفار التي لم تطأها القوافل ..
يجمع أحلى اللآلئ من ظُلماتِ المحيط ..
يحلق في قممٍ ما رأتها الصقورْ …يسابق في مشيه الريح ..
يسكن أقصى النجومْ
(30) الحمى ، هناك ، ص 145-150 .
وإن هزَّكِ الشوق سيري … إلى البيد فهو هناكْ
على كل حبة رملٍ … على كلِّ تلِ
وفي الزهرات الضئيلة .. في كل وادِ
فقد كان يعشق صحراءه .. بعشق الشمس .
والريح والشوك .. يعشق … حتى السرابْ .
إلى حيث يجتمع الناس فهو هناكْ
على كل وجهٍ سعيدٍ … على كل وجهٍ حزينْ
وفي ضحكة الطفل وهو يطارد ظِلَّه …
وفي دمعة الطفل حين يجوع
مع البؤساء … مع الضائعين
لقد كان يعشقهم .. أنت تدرينَ … كم كان يعشقهم ..
وهنا الشاعر هو الذي يعلن نبأ وفاته ، وانتقال روح الشاعرية عن جسده الذي تحولَّ إلى مومياء ، ويصف لسلمى وضعه الجديد الذي يُعايشه ، وتلبَّسه بالغبار ، الذي أذاقه المر ، ويتكلم الشاعر هنا بلسانه القديم .. بلغته الأولى ، لغة المتكلم بعفوية ، ولغته الثانية هي لغة الغائب المُمتَلَك الحيران ، بلغة الإفلاس .
( الإفلاس ) (31)
[ لا تلقينيْ … في لجة هذا الكون المحمومْ
في قبضة هذا الأفقِ الدامي … الجهم المسمومْ
فأنا أحمل في أعماقي … جُبن المهزومْ
وتباريح السيف المثلومْ
لا تلقيني … في هذي القفرةِ حيث الوحشة …
حيث الغولُ .. وحيث البوم
ودعيني … في جنة عينيكِ أسافر ما بين … غدير وكرومْ
يا أماه ! ويا أختاه ! ويا حُبَّاه ! … يا نجمة درباه !
ما أقسى خطو الزمن الموغل في أحشائي .. ما أقساهْ
ما أشنع ما ارتكبت كفَّاه … ألقى فوق جبيني حُمَّاهْ
ورمى بين ضلوعي … سود خطاياهْ
نثر الشيبَ بفود الطفل … وحطَّم ألعابهْ
واقتاد خطاه إلى الأسد الجوعى … وسط الغابهْ
يا مُلهمةَ الأشعارْ ! … جفَّتْ بعدكِ كل الأشجارْ
نضبتْ بعدكِ كل الآبارْ … صَمَتَ القيثارْ
والشاعر ؟ أين الشاعر ؟ … سار بقافلة التُّجارْ
أنشد للدرهم والدينارْ …
يا مُلهمةَ الأشعار ! … قومي من نومكِِِ ! ويحكِ !
أخشى أن ينقرض الشعر … فهذا زمنُ السمسارُ ]
والآن أعيش على الذكرى الخرساءْ … أتنفَّسُ قبح الأشياءْ
اجترُّ الشعر – المومياءْ
أَهَنَاكَ خيارْ ؟ .. هاأنذا أعتزلُ الأشعارْ
هاأنذا أعلنُ إفلاسي … أنعي لجميع الناسِ
المَيتْ الغالي .. إحساسي ]
أنا قد تقاعدتُ سيدتي … من مطاردة الوهم عبر صحاري الخيال …
تقاعدت من رحلتي في تخوم الرجاء .. وعبر بحار المخاض المليئة
موجاً عنيفاً .. تقاعدتُ أعلنتُ للناسِ أني …
قد كنتُ منذ سنينٍ طوالٍ .. ومتُّ .. فمن يفضح السرَّ ؟ من يحفر القبر ؟
سيدتي ! اتركيني فإني أطلتُ الكلام
وأدركني الآن ضوءُ الصباح
(31) الحمى ، ص 153-160 .
والموتُ يسترسل في وتيني
فقرِّبي مني .. ولامسيني
وقبل أن أرقدَ حدِّثيني
* هذه القصيدة الحمى المسمى باسمها الديوان ص 13-18 ، وهي من بحر الرجز الذي قلَّ استعماله هذه الأيام في الشعر التقليد بقدر ما زاد في الشعر الحديث ) .
من المجد .. إنما المجدُ غولُ ؟
فالقلب وحشةٌ وطلولُ
سرابٌ ما بُلَّ منه غليلُ
وهمٌّ تدقُّ له الطبولُ
--
اقرأني » يوسف آل مسعود
صوري هنا
http://cid-a739682a20824dd4.photos.live.com/summary.aspx
وهنا فلكر
http://www.flickr.com/photos/32068909@N08/
قال الله تعالىخذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)
لقد تخطفتني المفاجأة المؤلمة للشارع العربي على حين غرّة، فقد كنت أسمع كلما أوترت قوسها الأنباء أن الدكتور "غازي" قد تعافى من مرضه وسوف يعود إلى الأضواء أكثر إشراقا، وكانت أمنيتي بلقائه هنا في منبر نادي الأحساء تراودني بين حين وآخر بعد أن يتماثل للشفاء..
علاقتي بالقصيبي علاقة عشق الوطن وترابه ونخيله وكتابه المدرسي ومذكرات الجامعة فهو الذي ملأ أسماع الأجيال بصوته المنغم وشعره المقفى بالسمو والتعالي عن الانشغال بالذات وتقديم مصالح الناس قبل مصالحه فلذا أطلق عليه غازي الإنسان بدلاً من الشاعر كما قال الكثير ومنهم الشاعرالصحيح .
الأعوام السبعون التي عاشها القصيبي قبل أن يوارى الثرى , كانت عطاء وسهراً ومعاناة في مجالات التنمية والإدارة والإبداع الأدبي , ويعتبر القصيبي ظاهرة في المشهد الأدبي السعودي , لم يكن فقط صاحب ديوان الحمى أحد دواوينه الباكرة الذي انتشر قبل عقود واحدث رد فعل صادم , اشبه بما تفعله الحمى في الجسد , بما انطوى عليه من تجديد رؤية مغايرة وتشوف لما ينبغي أن تكون عليه القصيدة , ولم يكن فقط شاعراً وروائياً ولا قاصاً أو مؤلفاً من طراز رفيع ولا أيضاً وزيراً وسفيراً , بل كان كل ذلك في المستوى نفسه من الإبداع والجرأة والتمرد والصخب وتعدد الأحلام .
فهل هو أيضاً حلم وصوت لكل أديب في الوطن ... لا بل هو صوت وحلم لكل مواطن حر ونزيه ومتكلم لبق ودبلوماسي ...
إنه الأديب الواعي فارس المهمات الصعبة وقدوة الشباب وفخر الوطن والمواطن ...
يقول الشاعر القصيبي في كتابه سيرة شعرية :
إن كل شاعر حقيقي يجب أن يكون كلاسيكياً ورومانسياً وواقعياً في الوقت نفسه .
يجب أن يكون كلاسيكياً فيتحدث بلسان قومه وبالأسلوب الذي يفهمونه ، وبالموسيقى التي تعوَّدت عليها آذانهم ، وبالكلمات التي يحتويها تراثهم ، ويجب أن يكون رومانسياً فيعايش تجاربه معايشة شخصية ذاتية مباشرة بحيث تمتزج التجارب بالذات وتصبح كلاً واحداً لا ينفصل .
ويجب أن يكون واقعياً فيعيش مع البشر ويستنشق هموم البشر ، ويلامس مشاكل البشر ، من نظرتي إلى ( دور الشعر ) ، وإلى طبيعة الشعراء انطلقت عدة مواقف عملية محددة ، نظراً لاقتناعي بأن الشعر غاية في حدِّ ذاته ، وليس وسيلة نحو غاية أكبر رفضتُ أن أجند شعري لخدمة أي قضية من القضايا . (سيرة شعرية ، ص 150-151 .).
فقصيدته الشهيرة «رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة» التي عاتب فيها المسؤولين بسبب الفساد وسعي «الوشاة» إلى النيل منه ، هذه القصيدة صيرته سفيراً في البحرين، بعد أن أعفي من منصبه الوزاري.
قــل لـلـوشـاة أتـيــت أرفـــع رايـتــي البيضاء فاسعوا في أديمي واضربوا
هذي المعارك لست أحسـن خوضهـا مـــن ذا يـحــارب والـغـريـم الثـعـلـب
ومــن المنـاضـل والـسـلاح دسيـسـة ومـــن المـكـافـح والـعــدو الـعـقـرب
تـأبـى الرجـولـة أن تـدنــس سيـفـهـا قــد يغـلـب الـمـقـدام سـاعــة يـغـلـب
ويخاطب زوجته في قصيدة سابقة:
قولي: لم يكنْ بَطَلاً، لكنه لم يقبّل جبهةَ العارِ
(20) سيرة شعرية ، ص 150-151 .
كنتُ بريئاً … فجُّ الإحساسْ
لا أبصر فرقاً بين الناس … الكل سواء … الكل لآدم من حواءْ
ووقفت على هذا الميناء
فرأيتُ صغيراً وكبيراً … ورأيتُ حقيراً وخطيراً
هذا يجلس .. والناس وقوفْ
هذا يمشي .. فتسيرُ صفوف
هذا يستقبله الحجَّابْ … هذا يترك خلف الأبوابْ
وأصبتُ هناك بحمَّى المجد ] 1975م
إننا نلاحظ التمرد الواضح في قصائد الحمى ، بعد أن أعلن شاعرنا أن الشعر محال في عصرنا هذا إلى التقاعد ، ونعى إلى جميع الناس موت الشاعر ، حيث ابتدأت قصائده بمحاولة التغلب في صراعها مع الحمى ، لكن حمى الزمن الملعون صرعت قصائد القصيبي ، وحولتها إلى جثة هامدة محنطة آلت إلى مومياء .
هذا الشاعر تحول من طفلٍ غِرٍّ إلى كهلٍ خالٍ من الأحاسيس ، وكتلةٍ خاملةٍ ، ومن براءةٍ وطهارةٍ إلى خباثةٍ ودناءةٍ ، وكل صفات الشاعر رحلت عنه، وفارقت قلبه ، وسنبحث عن الدليل ! أو عن سبب إصابته بالحمى ! .
نلحظ أن شاعرنا هو الآن في طور الخشية على الشاعرية من المجد المسمى بالطموح والمعالي ، وهذه المسميات يستعملها أهل ( الجاه والمال ) ، لكنها في عرف الشاعر أو ( الإنسان ) هي وحشة وسراب ووهم ، وهذا الغول – بلغة الشاعر – مخيف يكون صِلاًّ من المجد والطموح والمعالي ليأكل ثلاثة هي الرفق والسماحة والطيبة ،
يا أعز النساء جئت حصاناً مثخناً هده السباق الطويل
كسرت ساقه فجن إباء كيف يحبو هذا الجواد الأصيل
يا أعز النساء أخشى على قلبي
تأكل الرفق والسماحة والطيبة
والطموحُ الذي يغني له الناسُ
والمعالي التي يهيمُ بها الأقوام
طالعنا في قصيدة ( يا أعز النساء ) تاريخ الشعر ، ومكانة الشعر وحالة الرفض لزوال مكانته وعزته ، وهاهو لشدة ما آلمه من حزنه على زمانه التليد ، وتاريخه المجيد ، تسربت إليه هذه الحمى * :
أحس بالرعشة تعتريني
وموجة الإغماء تحتويني
مُرِّي بكفيكِ على جبيني
ويصور شاعرنا الفارس أنه يخوض معركة ضد الطامعين ، وصراع مع الكبار ، في ساحة تكالبت على الشعر أعداؤه ، فهو طامحٌ لأن يكون فارس الميدان ، وبطل الساحة فهل يتحقق له ذلك ؟
حاربتُ بالشعرِ
غنيتُ للطهرِ
وعدتُ يا سلمى
لن أدرك الحلما
هتَفَتِ بي ( أهلاً )
وقلتِ لي ( كلا !
في عالمٍ لا يفهمُ الشعرا
في عالمٍ يغتصبُ الطهرا
ممزَّقاً بعد العناء الشديدْ
ففيمَ أمضي في صراعي العنيدْ ؟
وضوَّأت لي بسمةٌ كالقمرْ
لن ينحني الشعر لزيف البشرْ )
يسكت صوت الشاعر ، ويُعلن عن حالة وفاته ، وتجهيز جثمانه ، لتنتقل روحه إلى عبقر ، وكأنه يتكلم عن لسان الناعي :
( فيما العناء )
[ وحين أغيبْ … وراء المغيبْ
يقولون كان عنيداً … وكان يقول : القصيدا
وكان يحاولُ .. شيئاً جديدا
وراح وخلَّف هذا الوجودا
كما كان قبل غبياً بليدا .. ففيم العناءْ ؟ ]
ولكن سكون صوت الشاعر سببه ماذا ؟ لكن الشامت أعلنها : رحيل ( كان وكان ) مرثية ألقيت في رثائه قبل أن تُهيأ الأكفان ، فكأنها تنتظر أن يحين يوم وفاته ؛ لأنهم رأوا منه هدأته ، وغيبوبته التي طالت ، لكن الشاعر بتجلده أخَّر فرحتهم .
وفجأةً صوت الشاعر يسكت هذا الناعي ( كان وكان ) ، ويقطع عليه بقولٍ : (لا ، ولم ) يدع للشك مجالاً ، أن هناك من الشامتين الذين يتمنون زوال صوته وغيابه :
الشاعر يُسلم بالأمر الواقع ، ويرضى بما هو صائرٌ إليه ، فهذا قدره ، فهو لا يقبل أن يعيش شيخوخة الشعر ، ولكن هل ينجح الشاعر في اختياره البديل ؟ .
هنــاك (30)
[ وذات مساءْ
وركب الضياء يودِّعُ السماءْ
سيأخذني الغيبُ في ساعديهْ
فأمضى وراء المغيبْ
إلى حيث يرتحل الشعراءْ
تقولين : ( ما باله لم يعد ؟ )
تقولين : ( أين أراهْ ؟ )
وتنتظرين على الباب حتى تنام النجومْ
ولكنني
- يا رفيقة عمري .. وواحة قفري ..
وشمس حياتي .. ويا قُبلة الأمنياتِ
التي حررتني من اليأس .. يا وردة الأُمسياتِ
الندية بالعطر والشوق والهمس-
لكنني لن أعود ..
لأنني هناكْ
أتبكينَ ؟
لا والذي جعل الحبَّ يجمع ما بيننا
مِثْلَ قيدٍ شهيٍ عنيفْ
لا والذي صان أيامنا من
غباء الأنامِ وغدر الزمانْ
لا والذي ما عبدنا ، رجونا ، خشينا سواهْ
ارفعي الرأس قولي : ( حبيبي
يواصل ترحاله في صميم الوجودْ
يجوب القفار التي لم تطأها القوافل ..
يجمع أحلى اللآلئ من ظُلماتِ المحيط ..
يحلق في قممٍ ما رأتها الصقورْ …يسابق في مشيه الريح ..
يسكن أقصى النجومْ
(30) الحمى ، هناك ، ص 145-150 .
وإن هزَّكِ الشوق سيري … إلى البيد فهو هناكْ
على كل حبة رملٍ … على كلِّ تلِ
وفي الزهرات الضئيلة .. في كل وادِ
فقد كان يعشق صحراءه .. بعشق الشمس .
والريح والشوك .. يعشق … حتى السرابْ .
إلى حيث يجتمع الناس فهو هناكْ
على كل وجهٍ سعيدٍ … على كل وجهٍ حزينْ
وفي ضحكة الطفل وهو يطارد ظِلَّه …
وفي دمعة الطفل حين يجوع
مع البؤساء … مع الضائعين
لقد كان يعشقهم .. أنت تدرينَ … كم كان يعشقهم ..
وهنا الشاعر هو الذي يعلن نبأ وفاته ، وانتقال روح الشاعرية عن جسده الذي تحولَّ إلى مومياء ، ويصف لسلمى وضعه الجديد الذي يُعايشه ، وتلبَّسه بالغبار ، الذي أذاقه المر ، ويتكلم الشاعر هنا بلسانه القديم .. بلغته الأولى ، لغة المتكلم بعفوية ، ولغته الثانية هي لغة الغائب المُمتَلَك الحيران ، بلغة الإفلاس .
( الإفلاس ) (31)
[ لا تلقينيْ … في لجة هذا الكون المحمومْ
في قبضة هذا الأفقِ الدامي … الجهم المسمومْ
فأنا أحمل في أعماقي … جُبن المهزومْ
وتباريح السيف المثلومْ
لا تلقيني … في هذي القفرةِ حيث الوحشة …
حيث الغولُ .. وحيث البوم
ودعيني … في جنة عينيكِ أسافر ما بين … غدير وكرومْ
يا أماه ! ويا أختاه ! ويا حُبَّاه ! … يا نجمة درباه !
ما أقسى خطو الزمن الموغل في أحشائي .. ما أقساهْ
ما أشنع ما ارتكبت كفَّاه … ألقى فوق جبيني حُمَّاهْ
ورمى بين ضلوعي … سود خطاياهْ
نثر الشيبَ بفود الطفل … وحطَّم ألعابهْ
واقتاد خطاه إلى الأسد الجوعى … وسط الغابهْ
يا مُلهمةَ الأشعارْ ! … جفَّتْ بعدكِ كل الأشجارْ
نضبتْ بعدكِ كل الآبارْ … صَمَتَ القيثارْ
والشاعر ؟ أين الشاعر ؟ … سار بقافلة التُّجارْ
أنشد للدرهم والدينارْ …
يا مُلهمةَ الأشعار ! … قومي من نومكِِِ ! ويحكِ !
أخشى أن ينقرض الشعر … فهذا زمنُ السمسارُ ]
والآن أعيش على الذكرى الخرساءْ … أتنفَّسُ قبح الأشياءْ
اجترُّ الشعر – المومياءْ
أَهَنَاكَ خيارْ ؟ .. هاأنذا أعتزلُ الأشعارْ
هاأنذا أعلنُ إفلاسي … أنعي لجميع الناسِ
المَيتْ الغالي .. إحساسي ]
أنا قد تقاعدتُ سيدتي … من مطاردة الوهم عبر صحاري الخيال …
تقاعدت من رحلتي في تخوم الرجاء .. وعبر بحار المخاض المليئة
موجاً عنيفاً .. تقاعدتُ أعلنتُ للناسِ أني …
قد كنتُ منذ سنينٍ طوالٍ .. ومتُّ .. فمن يفضح السرَّ ؟ من يحفر القبر ؟
سيدتي ! اتركيني فإني أطلتُ الكلام
وأدركني الآن ضوءُ الصباح
(31) الحمى ، ص 153-160 .
والموتُ يسترسل في وتيني
فقرِّبي مني .. ولامسيني
وقبل أن أرقدَ حدِّثيني
* هذه القصيدة الحمى المسمى باسمها الديوان ص 13-18 ، وهي من بحر الرجز الذي قلَّ استعماله هذه الأيام في الشعر التقليد بقدر ما زاد في الشعر الحديث ) .
من المجد .. إنما المجدُ غولُ ؟
فالقلب وحشةٌ وطلولُ
سرابٌ ما بُلَّ منه غليلُ
وهمٌّ تدقُّ له الطبولُ
--
اقرأني » يوسف آل مسعود
صوري هنا
http://cid-a739682a20824dd4.photos.live.com/summary.aspx
وهنا فلكر
http://www.flickr.com/photos/32068909@N08/
قال الله تعالىخذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)
تمريّون- الإدارة
-
الإقامة : هجر
العمل/الترقيه : عامل
السٌّمعَة : 3
نقاط : 690
تاريخ التسجيل : 12/05/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين 08 فبراير 2021, 6:32 am من طرف تمريّون
» من كتابات أم عماد المبارك رحمها الله تعالى
الأحد 10 مايو 2020, 3:01 pm من طرف المشرف العام
» منتدى أبوخمسين 12-10-1414 هـ
الخميس 22 سبتمبر 2016, 7:48 pm من طرف تمريّون
» معجم البابطين لشعراء القرنين ال 19 و 20
الأربعاء 31 أغسطس 2016, 4:43 pm من طرف تمريّون
» حول معنى كلمة .. الباطل يموت بترك ذكره .
السبت 28 مايو 2016, 12:10 pm من طرف تمريّون
» ياغيور ..
الثلاثاء 03 مايو 2016, 3:16 pm من طرف تمريّون
» رسائل بين الشاعرين الشامي ابن عيسى والهجري ابن الصحيح
السبت 26 ديسمبر 2015, 2:50 pm من طرف تمريّون
» تأمل في قول الرسول ( ص ) : (( صوموا تصحوا ))
الخميس 07 مارس 2013, 3:50 am من طرف تمريّون
» مـا أسـرع أيـامك يـاشهر رمضـان
الخميس 07 مارس 2013, 3:40 am من طرف تمريّون
» لكل يوم من شهر رمضان دعاء
الخميس 07 مارس 2013, 3:37 am من طرف تمريّون